انعقاد المؤتمر الاقتصادي المصري: خطوة للأمام أم استمرار لسياسات الماضي؟
بيان صحفي
يأتي مؤتمر دعم وتنشيط الاقتصاد المصري ـ في منتصف الشهر الجاري ـ في إطار خطاب حكومي وإعلامي رسمي يعكس عقد الحكومة المصرية لآمال وتوقعات كبيرة على نجاح المؤتمر في جذب الأموال التي يحتاجها الاقتصاد للخروج من أزمته المالية، هذا في الوقت الذي تحتاج مجموعة الأسس الإستراتيجية التي تقوم عليها نظرة الدولة إلى الاستثمار، إلى مراجعة تهدف من ناحية إلى إدارة الأزمة المالية للدولة، وتهدف من ناحية أخرى إلى مواجهة المشكلات الهيكلية الموروثة من الماضي.
ينطلق المؤتمر الاقتصادي ـ مع أهميته البالغة للاقتصاد المصري ـ في إطارٍ من غياب قواعد الديمقراطية والمشاركة والشفافية والمساءلة، التي تشكل العقد الاجتماعي الأكثر رصانة بين الدولة والمجتمع، ففي ظل تركيز المؤتمر في ترويج الفرص الاستثمارية للمستثمرين وعلى الأخص الأجانب، لم تركز الحكومة بأي حال على تقوية علاقاتها بكافة الفواعل الأساسية على المستوى الوطني، من نقابات وعمال ومؤسسات مجتمع مدني، بل وجارٍ إصدار مجموعة من التشريعات التي من المفترض أن تشكل الأسس التي تقوم عليها الرؤية الاقتصادية للدولة، دون وجود برلمان منتخب ودون شراكة مجتمعية تذكر. فلم يعرض قانون الاستثمار بمسوداته المتعددة لمراجعة مجتمعية جادة، خارج إطار بعض المستثمرين الأقرب إلى السلطة، بل وليس من المتوقع أن يتمكن المستثمرون أنفسهم من مراجعة القانون ولائحته التنفيذية الكاملة قبل انعقاد المؤتمر بوقت كافٍ.
لقد ظلت فلسفة استهداف النمو كمؤشر وحيد لقياس أداء الاقتصاد الوطني حاكمة للإدارة الاقتصادية لفترة طويلة، ومن ثم الدفع بالمزيد من الاستثمارات عن طريق الحوافز الضريبية والحوافز المتعلقة بتسعير الأصول المحلية وتخصيصها، والطاقة وحماية المستثمر حتى من السلطة القضائية المحلية ذاتها، وهي الفلسفة ذاتها التي انعكست في المسودات التي تم تداولها في بعض الصحف من قانون الاستثمار المقترح، والفلسفة الضريبية المصاحبة له، التي اعتمدت على تخفيض سقف الضريبة، هذا مع الإبقاء على دعم الصادرات في ظل عدم تمتع هذا الدعم بأية شفافية حول الصناعات المستفيدة حقيقةً، ومدى فاعليته، وحاجته إلى مراجعةٍ من حيث الهيكل والمنتفعون.
إنها السياسة ذاتها التي نتج عنها قبل ثورة يناير بعض الزيادة الكمية في حجم الاستثمارات، ولكن دون تنوع أو انعكاس على التنمية والعدالة والتشغيل، وهو ما يثير أسئلة متعددة حول نوعية الاستثمارات التي سوف يتمكن المؤتمر الاقتصادي من جذبها إلى الدولة، ومدى قدرتها على خلق تنمية حقيقية في ظل اعتماد الدولة لسياسة الترويج من خلال الأصول المحلية الرخيصة وعدم وجود إطار قوى لحوكمة العقود التي تنبني عليها المشروعات وبخاصة مشروعات المشاركة بين القطاعين العام والخاص، وفى إطار هذا المناخ فإننا نخشى ألَّا ينتج عن المؤتمر سوى بعض الاستثمارات الهادفة إلى ربح سريع وقصير الأجل.
وقد أعلنت وزارة المالية أخيرًا على موقعها الرسمي موافقةَ المجموعة الاقتصادية بالحكومة على توحيد أسعار الضرائب على الدخل في مصر بحد أقصى 22,5%، منخفضاً عن ما كان إجماليه 30% ووفقًا لـِ هاني قدري دميان ـ وزير المالية ـ فإن هذه الإجراءات تأتي ضمن خطة لتحسين مناخ الاستثمار. ويأتي هذا كتعبير عن افتراض تقليدي بأن هناك علاقة بسيطة ومباشرة بين خفض سعر الضريبة ـ خصوصًا عن الشريحة الأعلى ـ وجذب الاستثمارات، لكن ـ في الواقع ـ توحيد الضريبة وتخفيضها للجميع يحرم الدولة من أداة مهمة ورئيسية لتحفيز أنواع معينة من الاستثمارات التي تخدم خطط التنمية العادلة المستدامة عن طريق منحها امتيازات ضريبية، وعدم تحفيز مجالات أخرى تضر بخطط التنمية كالصناعات الملوِّثة أو قليلة العمالة، وكثيفة الاستخدام للطاقة، عن طريق رفع الضرائب عليها. وبما أن المؤتمر يهدف إلى تشجيع بعض الاستثمارات ذات العائد الإيجابي على الاقتصاد والمجتمع ككلٍّ كالطاقة المتجددة، فمن المهم للحكومة استخدام السياسة الضريبية كأداة لخدمة خطط التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
ويأتي تخصيص الأراضي بالأمر المباشر بدون مقابل، الوارد في مشروع قانون تطوير منظومة الاستثمار المتوقع صدوره قبل المؤتمر في نفس إطار الاستمرار في منح الامتيازات للمستثمرين، التي قد لا تخدم بالضرورة أهدافًا تنموية تَوافَق عليها المجتمع، فضلًا على أن ممارسة تخصيص الأراضي بالأمر المباشر قد أهدرت من خزينة الدولة في الماضي مليارات لا حصر لها من الجنيهات بشهادة الجهاز المركزي للمحاسبات، مع عدم وجود إستراتيجية كمنح تلك الأراضي مثلًا لإقامة مشروعات إسكان محدودي الدخل أو القيام بمشروعات للتنمية المستدامة، فرأينا أغلب هذه الثروة القومية تذهب لبناء منتجعات للإسكان الفاخر يملكها ويستفيد منها شخصيات شديدة القرب من النظام الحاكم، ويَتبدَّى هذا التخوف من حقيقة طبيعة المشروعات التي أعلنت عنها الصحف، حيث قامت الحكومة بالترويج لـِ 37 مشروعًا للاستثمار في المؤتمر، منهم 9 مشروعات إسكانية وعمرانية و4 مشروعات لمنتجعات سياحية ضخمة، غالبًا ما ستستفيد بمنح الأرض بالأمر المباشر بدون مقابل أو بأسعار تقل عن أسعار السوق، كما ورد بمشروع قانون تطوير منظومة الاستثمار المتوقع صدوره قريبًا.
وتأتي كذلك المشروعات المتعلقة بالصناعات البترولية وتوليد الكهرباء بالفحم لتحتل مكانة متقدمة في مشروعات الطاقة المعلن عنها بمناسبة المؤتمر. ونخشى أن تكون الرؤية التي تتبناها الدولة هي السعي السريع إلى الحصول على طاقة بأرخص الأسعار، مهملةً المحاور الأكثر تأثيرًا على المدى الطويل في قضية الطاقة، مثل: ضمان السيادة الوطنية على مصادر الطاقة والاستدامة البيئية والاجتماعية.
يأتي هذا التخوف في ضوء حقيقة أن الموقع الرسمي للمؤتمر قد أعلن رسميًّا عن النية في توليد 6 جيجاوات من الطاقة التي تعمل بالفحم، فضلًا على أن شركات الأسمنت تعمل في الوقت الحالي على التحول إلى تشغيل مصانعها بالفحم، في حين أن خطط استخدام الطاقة المتجددة سواء من الشمس أو الرياح ما زالت غامضة. بالإضافة إلى ذلك يحيط الكثير من الغموض وعودَ المؤتمر بخصخصة أجزاء كبيرة من قطاع الكهرباء فيما يخص التوليد والتوزيع، والذي قد يكون له انعكاسات سلبية على العدالة الاجتماعية وهو ما ينبه مرة أخرى إلى عدم طرح أجندة المؤتمر على الرأي العام وفتح نقاش مجتمعي واسع حول أهداف ووعود المؤتمر، خصوصًا في ظل غياب السلطة التشريعية مما يحمل مخاطر لها أسباب وجيهة حول تحول دور المؤتمر إلى بيع أصول الدولة لمستثمرين يبحثون عن فرص استثمار ومدخلات إنتاج رخيصة بدون تحقيق أهداف التنمية المرجوة.
في غمار سعي الحكومة إلى جذب الاستثمارات، نخشى أن يكون ذلك على حساب وضع واحترام الأُطر المناسبة للحوكمة، فمن مشاكل غياب الحوكمة الرئيسية التي تتبناها فلسفة تشريعات الاستثمار الجديدة التي تصدر بمناسبة المؤتمر: تحصين وحماية المستثمر من المحاسبة القضائية حيث تتبنى الحكومة ثلاثة محاور رئيسية لتحقيق ذلك الهدف وهو طمأنة المستثمر بأن يد العدالة بعيدة عنه، وهذه المحاور هي:
- إجراءات تحصين العقود المبرمة بين الحكومة والمستثمر عن طريق السماح لطرفي التعاقد فقط بالطعن عليه كما ورد بالقانون رقم 32 لسنة 2014 بتنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة.
- ما ورد فى نفس المشروع لقانون تطوير منظومة الاستثمار في المادة 15، بعدم جواز رفع دعوى أو اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق في الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني، التي تُرتكَب من المستثمر بصفته أو بشخصه، إلا بعد موافقة مجلس إدارة الهيئة العامة للاستثمار، وهو من منظور الحوكمة والفصل بين السلطات يعتبر تعديًّا سافرًا من السلطة التنفيذية، ممثلةً في الهيئة العامة للاستثمار على السلطة القضائية.
- حماية المستثمر من المحاسبة القضائية من خلال تكثيف الاعتماد على اللجوء إلى آليات فض المنازعات المستقِلة عن القضاء المصري، والتي تمنح درجة جديدة من الحصانة والحماية ضد المحاسَبة القضائية لمخالفات المستثمرين. وتنتقص هذه السياسات التحصينية من استقلال القضاء وسيادة القانون.
وفي النهاية، فإن زيادة الاستثمارات في الدولة من المفترض أن تنبني على فلسفة تضمن تحقق وخلق فرص عمل مرتفعة الجودة، وزيادة الحصيلة الضريبية، بالإضافة إلى زيادة موارد النقد الأجنبي وتخفيف الضغط على العملة الأجنبية، إلا أن المؤتمر الاقتصادي والسياسات المصاحبة له توحي بالتركيز في جلب الموارد المالية من العملة الصعبة لضبط مشكلات ميزان المدفوعات المصري.
فالمؤتمر من ناحية، يأتي في ظل ظروف مالية صعبة، نتجت عن مجموعة من المخاطر السياسية الإقليمية التي تمر بها المنطقة في الوقت الحالي، وعن إدارة محلية لم تتمكن حتى اليوم من حل مشكلات هيكلية جوهرية في الاقتصاد والحوكمة ومكافحة الفساد، وتعول على المؤتمر لحل المشكلات الاقتصادية كسبيل لتحقيق استقرار سياسي أكبر، إلا أن هذه الرؤية فاتها أن المشكلات الاقتصادية ذاتها ناتجة عن خلل في الإدارة السياسية للبلاد وعن النظرة الأمنية في معالجة الأمور وعن التمسك بمجموعة الحوافز التي لم تؤدِ إلى استثمار تنموي في الماضي، وهو ما يثير القلق من البقاء في الحلقة المفرغة ذاتها، المتعلقة بالرؤية حول أولوية العبور من الأزمة المالية مع عدم تدارس تكلفة هذا العبور على العدالة والتنمية والشفافية وسيادة القانون، بل وعلى الاستدامة المالية ذاتها.
مع الإقرار بأهمية الترويج لجلب الاستثمار, ترى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن وضع إستراتيجية قومية متكاملة ورصينة لإدارة الاقتصاد القومي كان يجب أن تكون الأساس الذي ترتكز عليه خطة الترويج للاستثمار في مصر.